Monday, April 8, 2019

سارغي مان رسام أعمى يعتمد على اللمس والذاكرة لرسم لوحاته

في المعرض الذي استضافته قاعة المدرسة الملكية للرسم "رويال دروينغ سكول" في لندن، للرسام البريطاني الراحل سارغي مان، تجد نفسك في فضاء حميم يشع بالألوان ويفيض ببهجة الضوء، لكنك لن تصدق أن من يقف وراء هذا الإبداع يعيش في ظلام مطبق ولا يرى غير العتمة بعد أن فقد بصره.
لقد نجح مان في أن يستبدل البصر بالبصيرة، ويبدد العتمة التي نزلت على عينيه باستعادة أشكال من أحبهم من ذاكرته وسط مناظر طافحة بالحميمية والألفة العائلية والألوان المبهجة، نقلها عبر تلك الحساسية المفرطة للجمال في الطبيعة التي ميزت أعماله.
لقد زحفت العتمة تدريجيا على عالم مان بعد مرض أَلمَ بعينيه في الثلاثينيات من عمره، حتى أطبقت عليه كليا ليفقد بصره نهائيا في السنوات الخمس الأخيرة من عمره (توفي في عام 2015)، وقد كرس هذا المعرض للوحاته التي رسمها في هذه السنوات فقط أي في مرحلة العمى التام.
وعلى العكس من الظلام الذي يطبق على عيني مان، نرى في لوحات المعرض فيضا من الضوء يشع من نوافذ أو أبواب لينير غرفا وفضاءات هندسية محددة تحتشد بشخصيات من عائلته وأصدقائه رسمهم بحميمية واضحة وسط كرنفال لوني مشع.
عُرف مان، المولود عام 1937، برسم المناظر الطبيعية والبروتريه أحيانا، وقد أقام معرضه الشخصي الأول في لندن عام 1963، كما عمل مدرسا للرسم بعد تخرجه من كلية كامبرويل للفنون مطلع الستينيات مركزاً في دروسه لطلبته وبحثه الجمالي على دراسة القوة التحويلية للضوء واللون والعلاقة بينهما.
بدأت مشكلة الإبصار مع مان وهو في أوج عطائه في عام 1973، عندما أصيب بالسّاد (الماء الأبيض أو إعتام عدسة العين) أعقبته إصابته بانفصال الشبكية في كلتا عينيه، الأمر الذي انتهى بفقدانه القدرة على الإبصار نهائيا.
خلال فقدان البصر التدريجي، حرص مان على مواصلة الرسم بتطوير تقنيات تساعده في عمله، كتحوير عدسات تيلسكوب تساعده في تكبير الصور، حتى انتهى بعد عماه إلى الاعتماد على حاسة اللمس واستخدام عجينة لاصقة وأربطة مطاطية لتحديد حدود الأشكال التي يريد رسمها على قماشة اللوحة.
ولعل الراصد لمجمل نتاج مان في مختلف مراحله سيكتشف أنها تعكس بوضوح هذا الصراع مع فقدان البصر التدريجي، وقدرته على استثمار ما يتعرض له في سياق بحثه الفني والجمالي بدءاً من الغشاوة التي بدأ يرى فيها الألوان، حيث بدأ دماغه يراها تصطبغ باللون الأزرق، ومرورا بتجربة أن يرى الأشياء مزدوجة في أحدى عينيه ومفردة في الأخرى وانتهاء بظلام فقدان البصر التام.
وطور مان، في تحديه لمحنته تلك، استراتيجية لمواصلة إبداعه الفني لم تتوقف عند تلك التقنيات الحسية القائمة على اللمس، بل زاوجها مع الاعتماد على عمليات إدراكية ومعرفية لخلق صوره الفنيه، معتمدا على الذاكرة "التي يصفها بأنها "رافقتني كنوع من التميمة"، فباتت الذاكرة والخيال والحدس متممات الرؤية لديه وأدواته في خلق أشكاله الفنية.
وعلى الرغم من ضعف بصره، ظل مان يقوم برحلات لمواصلة ولعه برسم المناظر الطبيعية، ويصف في شهادة نشرها موقع بي بي سي عام 2015 تجربته في الرسم في هذه الرحلات بقوله "أفضل دائما الرسم في الضوء الساطع، ومنذ ذلك حتى عماي التام في عام 2005 ذهبنا مرات عديدة إلى إيطاليا وفرنسا، كما ذهبت إلى البرتغال وجنوب الهند مع اختي. في الهند والبرتغال، وفي بعض الأحيان في إيطاليا، حدث أن قضيت اليوم الأول في غرفة مظلمة رفقة نوع من الحمى، لكن دماغي ظل متكيفا مع مستويات الضوء الأكثر إشعاعا في المحيط الخارجي. وفي اليوم الثاني ذهبت لأكتشف عالما جميلاً مختلفاً ومدهشاً بإشراق ضوء جديد".
وسبق لمان خلال حياته أن شرح تجربته الفنية والتقنيات والأساليب التي طورها لتحدي محنة فقدانه البصر ومواصلة عمله الفني في أكثر من فيلم وثائقي، من بينها فيلم أنتجته بي بي سي عام 2014 تحت عنوان "الرسام الأعمى سارغي مان: رسم برؤية داخلية"، وآخر أنتجه ابنه بيتر مان في عام 2006 تحت عنوان "سارغي مان".
وفي الفيلم الأخير نرى مان برفقة ابنه في رحلة إلى قرية في شمالي شرق إسبانيا، وهو يحاول مواصلة نهجه في رسم المناظر الطبيعية في الأيام الأخيرة قبل فقدانه البصر نهائيا، ونرى كيف يحاول أن يستخدم حسه الهندسي لحساب أبعاد المكان الذي يتلاشى من أمام بصره.
ففي أحد المشاهد نراه يحاول على شرفة مطلة على البحر حساب أبعاد المكان وتلمس حدود الجدار وتفاصيل الشرفة، وعند مشاهدة المعرض الأخير نرى انعكاس ذلك في لوحتين رسمهما بناء على تجربته تلك، في ذات الفضاء الذي تخيله ذهنيا مع شكل زوجته وبعض أفراد عائلته بملابس السباحة.

Monday, April 1, 2019

صحيح نحن شخصيات معروفة ولكننا لسنا عاهرات كما يقولون

عند وصولها إلى مستشفى الشيخ زايد على بعد أربعة كيلومترات من موقع الجريمة كانت تارة قد توفيت، حسبما روت ممرضة خلال مقابلة تلفزيونية. ثلاث رصاصات أنهت حياتها؛ واحدة في الرأس، وواحدة في العنق، وأخرى في الصدر، ونقل تلفزيون الحرة أن الأطباء حاولوا إنعاشها دون جدوى.
وتداول الإعلام العراقي بيانات لوزارتي الداخلية والصحة أكدت إطلاق الرصاص على تارة فارس، 22 عاما، بحي كامب سارة في العاصمة بغداد، وأرداها هذا قتيلة.
في اليوم التالي، نشر مكتب رئيس الوزراء آنئذ، حيدر العبادي، تغريدة جاء فيها أنه وجه أوامره إلى الأجهزة الأمنية بمباشرة التحقيق فورا والوصول إلى ملابسات الحادث في غضون 48 ساعة، متعهدا بالتحقيق في جرائم قتل أخرى. فقد أشارت تقارير إعلامية إلى أن تارة كانت ثالث شابة معروفة تقتل في بغداد في غضون شهرين؛ فقد قتلت اثنتان أخريان في نفس التوقيت بعد ظهر الخميس.
كانت رفيف الياسري تعمل في عيادة "باربي كلينيك" لعمليات التجميل، كما كانت تقدم خدمات طبية بالمجان لمن يحتاج مساعدة وغير قادر على الدفع، كذلك كانت رشا حسن تدير مركز تجميل، وكانتا في الثلاثينيات من عمرهما، وقضتا نحبهما في ذات الشهر: أغسطس/آب.
صرحت وزارة الداخلية بأن رفيف الياسري ماتت "بسبب تعاطي جرعة زائدة من المخدرات"، أما رشا حسن فمن جراء مشاكل في القلب. ولكن غياب حكم حاسم بهذا الخصوص فتح المجال للتشكيك بما ذكر خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي.
تتساءل الناشطة مريم المندلاوي، ٢٤ عاما: "رفيف كانت طبيبة، هل يعقل أن تموت بجرعة زائدة؟"، وشكك مثلها كثيرون في تلك الأسباب التي ساقتها السلطات. وفي أجواء الهلع تلك، وضع الناس وفاة تارة والمرأتين الأخريين في سياق واحد رغم عدم وجود دليل قطعي على ذلك.
بدأ الناس يتحدثون عن استهداف "المتحررات" والنساء المؤثرات على وسائل التواصل الاجتماعي، وسارعت مواقع إخبارية حول العالم لتغطية مقتل تارة والحديث عن وجود صلات محتملة بحوادث قتل أخرى.
وكان العراق قد شهد حوادث قتل كان ضحاياها من الناشطين سواء أكانوا رجالا أم نساء – شغلت وسائل الإعلام المحلية. ففي مدينة البصرة أطلق الرصاص على المحامي جبار كريم البهادلي أواخر يوليو/تموز، وكان معروفا بالدفاع عن المحتجين، وقبل يومين من مقتل تارة، قتلت الناشطة سعاد العلي، 46 عاما، بالرصاص، على مقربة من سيارتها بالبصرة بجنوب العراق، وكانت ممن شاركوا في احتجاجات البصرة على نقص الخدمات الأساسية من مياه شرب ومرافق أخرى، وعلى انتشار البطالة.
أما مقتل تارة فكان مختلفا؛ كان مخططا بعناية: في وضح النهار، في حي آمن ببغداد، وفي شارع مراقب بالكاميرات.
تقول فاتن خليل حطاب الناشطة من البصرة والبالغة 25 عاما: "عندما قتلت سعاد بكيت، وكناشطين خفنا أن يلقى نشطاء آخرون المصير ذاته. أما الحكومة فحاولت تهدئة الأمور وأشارت إلى احتمال أن يكون طليقها وراء مقتلها، كمحاولة لامتصاص الخوف".
اولنا إقناع أنفسنا بتلك الرواية. ولكن لم تمض أيام حتى قتلت تارة فارس، وكان موتها الشرارة التي نشرت الخوف في نفوس النساء؛ فمستحيل أن يكون موت تارة صدفة، ومستحيل أن يكون موت رفيف، أخصائية التجميل التي قتلت في بغداد في ظروف غامضة، صدفة، ومستحيل أن يكون مقتل امرأة أخرى بعد أسبوع تعمل أيضا في التجميل في بغداد، هي رشا حسن، في ظروف غامضة أيضا، صدفة".
ورغم إشارة رئيس الوزراء السابق لوجود صلة بين تلك الحوادث، استبعدت تصريحات رسمية وجود شبهة جنائية تحيط بكل الوفيات.
وبعد أكثر من أسبوع على مقتل تارة، صرح وزير الداخلية السابق قاسم الأعرجي بأن تارة فارس "قتلت على أيدي جماعات متطرفة معروفة لدينا، والجهود مبذولة لإلقاء القبض (على الجناة) وعرضهم أمام الشعب العراقي لينالوا جزاءهم العادل"، ملمحا إلى سرعة حل القضية.
وخلال مقابلة تلفزيونية في 11 أكتوبر/تشرين الأول قال الوزير إن هناك "معلومات مؤكدة" تشير إلى أن "مجموعة متطرفة مدربة" قتلت تارة، دون أن يسمي تلك المجموعة ولكنه أضاف أن نفس المجموعة قتلت الممثل العراقي الواعد كرار نوشي صيف عام 2017.
وأوضح أن الكاميرات رصدت الدراجة التي استقلها قاتل تارة.
وفور مقتل تارة، كانت عيوش من بين من ألقي القبض عليهم، وأرسلت إلى سجن النساء في بغداد.
أثبتت التحقيقات براءة عيوش وأطلقت السلطات سراحها. خشوا أن تكون قد قُتلت بسبب أسلوب حياتها، وتحدث بعض الشابات، اللاتي اخترن أسلوب حياة مختلفا، عن تلقيهن تهديدات بالقتل.
ونقل تلفزيون العربية عن ملكة الجمال السابقة شيماء قاسم قولها إنها تعرضت للتهديد على وسائل التواصل الاجتماعي، وبعد أيام من جريمة قتل تارة ظهرت في بث مباشر على الإنترنت وهي تبكي في منزلها في عمان بالأردن وتقول: "لست خائفة ولكن روحي سئمت". وقالت إنها شعرت بغصة لكم التعليقات التي هللت لموت تارة، لذا قررت الابتعاد عن صفحات التواصل الاجتماعي فترة.
وقالت: "لهالدرجة حياة الناس صارت رخيصة؟ صحيح نحن شخصيات معروفة ولكننا لسنا عاهرات كما يقولون".